انتفضت فاطمة من مكانها تحاول ان تسيطر على مشاعرها وأفكارها،وممسكة بشدة على سماعة الهاتف وفكرها شارد،حاولت ان تستوعب ماتقوله لها والدة صديقتها المقربة على طرف السماعة الأخرى،شل لسانها عن الكلام وهي تسمعها ،ودار فكرها بالأسئلة ،هل يعقل أن سلوى أقرب صديقاتها ،وصل بها مرضها الخبيت إلى أن أصبحت على فراش الموت وتطلب رؤيتها ويمكن لوداعها؟ ولكن سلوى لازالت صغيرة،شابة،جميلة ،متحررة ، كلها حياة ونشاط، مليئة بحب المغامرة، كيف تصاب فجأة بمرض خبيت يقعدها الفراش بعد أن يأس الأطباء من حالتها؟حاولت فاطمة أن تخرج نفسها من دوامة تساؤلاتها وأدركت أن والدة سلوى لازالت على الهاتف فأسرعت للقول لها:
ـ نعم نعم أنا سأتي حالا لأراها...
أسرعت فاطمة لتغيير ملابسها بسرعة، وخرجت هائمة تبحث عن أي وسيلة مواصلات توصلها لبيت صديقتها،احست ان الطريق طويل جدا مع انها اعتادت على قطع هذه المسافة مرات ومرات دون أن تحس بالوقت، فقد رأته هذه المرة كنفق طويل مظلم تكثفت وسطه دخان السيارات بشكل خانق وزادته خيالات المارة كآبة، سبحت من جديد في أفكارها وهامت في تذكر أيامهما الجامعية، تذكرت كيف كانت سلوى اكثر واحدة في شلتها مهتمة بنفسها، بقوامها الممشوق، وشعرها المنسدل بلون الدجى، وضحكتها الفاتنة التي لا تفتر، وتنورتها القصيرة التي زادتها دلالا، وعيونها الكحيلة التي زادتها غنجا، تذكرت كيف كانت كل البنات يسموها بالقناصة،لأن أي رجل وسيم يمر في حياتهن إلا ويسقط في شباكها بسرعة...
ــ هذا هو المكان الذي طلبتي سيدتي
أفاقت فاطمة من تخيلاتها على صوت السائق لتدرك أنها وصلت لبيت سلوى،اسرعت في النزول،احست من الباب بطعم الحزن والصمت الكئيب يخيم على الجميع،أسرعت لغرفة صديقتها لتجدها مرمية على سريرها بوجهها الشاحب وجسمها الهزيل، تأملتها وهي طريحة الفراش لاتقدر على الحركة، وتذكرت مواعيدها "الهامة"ومخططاتها المستقبلية، ومابذلت من جهود من أجل ضبط تفاصيلها، وتهيئ سبل نجاحها، وكيف عولت على نتائجها...تأملت كيف هي الآن جسمها مغلول بالآلام،وحركاتها ساكنة عاجزة أمام تقدير رب الأرباب... حاولت فاطمة أن تجمع أفكارها وتتماسك أمام صديقتها، فرسمت على وجهها ابتسامة عريضة وحاولت الكلام حتى تحس بوجودها في الغرفة:
ــ مساء الخير سلوى ..كيف حالك حبيبتي
فتحت سلوى عيونها الذابلة الغائرة، وكأنها كانت سائحة في عالم آخر..
ــ مساء الخير فاطمة ...أنا آسفة لأني جئت بك في هذا الوقت المتأخر، لكني أحس برغبة في الفضفضة معك، فلا أحد يعرفني ويعرف تفاصيل حياتي التي شارفت على الإنتهاء مثلك.
ــ لاتقولي ذلك حبيبتي، حياتك لم تشارف على الإنتهاء فأنت لازلت صغيرة في مقتبل العمر، وستتعافين قريبا ان شاء الله، لاتخافي..
ــ أنا لست خائفة ولا متضايقة من مرضي الخبيت أبدا،لأن مواجهة الموت وقت مرض الغافل، بمثابة نور رباني مفاجئ يضيء الطريق في الليل الحالك، ويزيل من النفس أسباب التشبت بالدنيا الزائفة،فيتنبه من غفلته، ويبصر الطريق إلى نور الفجر، ويمسك بحبل النجاة من الظلمات...لكن شبابي حجب عني الهرم، والتشبت بالحياة حجب عني شبح الموت.
ــ انسي عنك شبح الموت،ولاتهتمي بهذا المرض اللعين، فالطب تطور كثيرا وأكيد أنك ستتعافين عما قريب، فلا مبرر لهذا الحزن صديقتي.
ـ قلت لك يا فاطمة انا لست حزينة بسبب مرضي، ولا اتوجع منه بل انا لا أبالي به،انا اتعذب بنار بعدي عن الله،لا أعرف كيف استطعت أن أعيش كل هذه السنوات وأنا اكتوي بنار بعدي عنه لحظة بلحظة وثانية بثانية دون أن أدري،أنا اتألم يافاطمة لأنه كان قريبا مني ولم ألجأ إليه،كانت يده ممدودة لي في كل لحظة وفي كل موقف من مواقف حياتي ولكني لم أطلب منه النجدة، بل أصررت على الصد عنه وعصيانه، حتى وأنا أغضبه وأعصيه كنت احس برحمته وحنوه علية ، ولكني من غلفتي لم أطلب العون منه ولم أستنجد به، آآه يافاطمة ليت عمري يعود.
ــ لكنك لم تظلمي أحدا ولم تفعلي مايستدعي كل هذا الألم والإحساس بالمرارة...
ــ بلا ياصديقتي، فأنا أكبر ظالمة، ظلمت نفسي وأمطرتها بالمعاصي، فلم أسجد لله سجدة واحدة، بل تكبرت بعزة أثمي، وهجرت كتابه طول عمري، فلم يغشاني الخوف ولم أتذكر، وظلمت كذلك مجتمعي ، فهيجت قطعان الذئاب بطيفي، وضربت لهم مواعيد الغرام بجرأة والله يسمع ما أقول ويبصر، فهاهو جسمي عاجز تماما الآن عن الحركة، ولم يبقى لي سوى لساني أذكره به، ورحمته ومغفرته أتعلق بها.
ـ هدئي من روعك حبيبتي، فأنت لست وحدك من عشتي حياتك هكذا، جميعنا يعيش مثلما عشتي، بل العالم كله يعيش بهذا الشكل، فنحن بلينا بزمن المغريات، ومجتمعنا هو الذي رمى بنا للهاوية ، وفتح لنا كل سبل المعاصي وسهلها بجميع الطرق و..
ـ اسكتي يافاطمة بل نحن بلوى لهذا الزمن ونحن عار عليه، نحن من نجعله زمن البطولات أوالخيبات ، ونحن من نجعل مجتمعنا مجتمع عفة وطهر أو مجتمع غواية وفجر.
ـ لكن لاتنسي أن مجتمعنا يرفض الإلتزام، فأن نلتزم معناه أن نفني نفسنا في هذه الحياة، فلا دراسة ولا عمل ولا أي شيء لأن كل المجالات مختلطة ومفخخة بالفتن، والمتدين إذا ظهر تدينه فهو غير مرغوب فيه، ويصبح الكل متوجس منه وحذر منه...فأنت معذورة لاخوف عليك وارتاحي عزيزتي فأنت أرهقتي نفسك بالكلام كثيرا.
ارتسمت على محيا سلوى شبه ابتسامة شاحبة ساخرة ،وكأنها تسخر من نفسها ومن كلام صديقتها الذي طالما أقنعت نفسها به، واختلطت الكلمات بدموعها وهي تقول:
ـ وإذا قال لي ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجرون فيها ماذا سأقول له؟؟؟؟؟؟؟؟
خيم صمت مطبق على الغرفة، فحتى فاطمة كانت تدرك أن ما تقوله مجرد اعذار لاتقنع حتى الصغير،لكنها تحاول التخفيف عنها،وتحاول أن تجد لنفسها مبررا كذلك حتى تخمد ثورة الندم التي بدأت تعتمل داخلها، فسارعت للقول:
ــ أنت تبالغين ياسلوى، وتعذبي نفسك بسياط الندم والحسرة بدون سبب،أنت وأنا والكل نعيش حياة جميلة ممتعة...فلماذا يجب أن نحرم من كل شيء؟لماذا يجب أن نحرم أنفسنا من الزينة والتجمل...أليس الله جميل يحب الجمال؟، لماذا يجب أن نلبس ملابس طويلة محتشمة، بل لما يفضل أن نغطي وجهنا بغلاف أسود وكأننا غربان مغلفة؟، لماذا نمنع من الصداقات والعلاقات مع الجنس الآخر ونحن نعيش في حياة واحدة معه؟ بل لماذا تمنع المرأة من السفر لوحدها دون محرم؟ لماذا تحرم الأغاني وهي فن المشاعر؟، بل لماذا يحرم الرقص الذي يمكن أن يكون نوع من الرياضة؟ ما السوء والخطأ في كل هذا؟ هل خلقنا الله لكي يحرمنا من كل ماهو جميل وممتع لنا؟، لماذا ننظر دائما للجانب السلبي في الأمورولانرى الجانب الإيجابي الجميل؟، لماذا لانعيش الحياة ونحن نتذوق مابها من جمال ؟،بصدق ما السوء في كل ذلك؟.
ــ عزيزتي نحن خلقنا لنعبده ،ولم نخلق لنعيش في هذه الحياة على طريقة"على البركة"، ونمضي مسيرين ومنومين مغناطيسيا...هناك الكثير من الأمور والعادات والطبائع التي نظنها ممتعة ورائعة وجميلة، دون أن ندرك أنها تجرنا للدخول في دائرة"فتن الدنيا"، ولا أعتقد أن هناك إنسان في هذه الحياة لم يقع ضحية الإنخداع بظواهر الأمور وإغفال بواطن شرها، فهو وحده تعالى الخبير الحكيم الذي يعلم كل بواطن الأمور،ونحن مهما وصل بنا العلم والحكمة والفطنة فلن نستطيع أن نلامس سوى بعض حكمه تعالى من خلال مواقف وتجارب انسانية...وأصدقك القول أنني لم أشعر يوما بطعم السعادة وأنا أعيش حياتي بكل ماوصفته بأنه ممتع وجميل لنا، السعادة غمرتني فقط حين حرمني الله العافية والصحة، فلم يعد قلبي معلقا بملذات الدنيا، وعوضني بلسان رطب بذكره، جعلني استشعر لذة القرب منه والأنس به، كنت حريصة على سعادة جسدي ونسيت أن السعادة في الروح التي هي نفخة من الرحمان، فلايسعدها غير القرب والأنس به، فطوبى لمن جعل جنته وسعادته في صدره.
اشتد بكاء فاطمة حتى اصبح بمثابة شهيق،فلم تعد قادرة على التماسك وضبط مشاعرها، وانقضت كل أعذارها وحيلها...
ــ يا فاطمة أنا لم آت بك في لحظاتي الأخيرة التي جل ما أحتاجه فيها هو خلوتي ومناجاتي لربي ، لكي تبكي،أنا طلبتك لأقول لك شيء واحد، وهو أن تحاولي السجود بين يدي ربك لتطفئي ناربعدك عنه من صدرك، اسجدي له يافاطمة طائعة قبل أن يأتي بك المرض أو الموت بين يديه ضعيفة ذليلة، ارجعي له وانت مختارة قبل أن يأتي بك وانت راغمة،تعلقي بحبل النجاة مهما وهن وقل، قبل أن تكتفك حبال الظلمات وتنكت على قلبك...امسحي دموعك يا فاطمة وإذهبي لبيتك فقد أصبحت بخير الآن ،ولاتنسي إذا كنت ولابد سحابة عابرة في هذه الحياة، فأمطري مطر خير ،أوأمسكي عليك غيمك... وإياك والتسويف فإنه يقتل الأحلام ويقطع الآمال.
ودعت فاطمة صديقتها وتمنت لها الشفاء وهي لاتدري إن كان سيكتب لها أن تراها مرة اخرى أم أن الموت سيبادر بالزيارة أسرع منها، خرجت مسرعة لا تلوي على شيء،سوى أن تكون وحيدة، فكلام سلوى عن نار البعد ولذة القرب أثار داخلها ثورة عارمة من الندم والوحشة والتيه والضياع...تأملت في نفسها كيف استعبدتها الخطيئة والنزوات حتى أصبحت منقادة لها ، لاتملك نفسها، وتأملت في حال صديقتها كيف أصبحت بين ليلة وضحاها لاتملك لنفسها ضرا ولانفعا، أحست أن قلبها يحرقها،كأنه جمرة متقدة بين ضلوعها لاتكاد تخبو..إنها حرقة الذنوب ،حرقة المعاصي،حرقة البعد عن الله... خاطبت نفسها بأنها يجب ان تسرع لله طائعة مختارة كما قالت لها صديقتها، فأسرعت للقياه...
كانت تلك الليلة أول مرة تسجد له في حياتها، أحست برعشة في قلبها، والطمئنينة تملأ نفسها.....رفعت يدها تدعوه والدموع تغمر خدودها، وهي مطمئنة موقنة أنها تناجي أرحم الراحمين...إلهي وخالقي أعلم أن ذنوبي وآثامي عظيمة ولكن عفوك أعظم...وأعرف أن الغفلة أماتنني عن الإستعداد للقياك ولكن المعرفة بكريم جودك نبهتني...إلهي وخالقي ذنوبي أفحمتني ونفسي أسرتني، فارحمني برحمتك يامن وسعت رحمته كل شيء...وتجاوز عني فأنت الحليم الغفار للذنوب...إلهي وخالقي أنا ببابك أناجيك وأتضرع إليك فلا تردني واعصمني من الذنوب واغفر لي خطاياي إنك أنت الغفور الرحيم.
بقلم ريما
حبيت تقراوها